ما أشبه اليوم بالبارحة…

خلدون ضياء الدين 

“أنا أشكو من زمـــــــــــــــــــــــانٍ

فاستجارَ الأمنُ خوْفــــــــــــــــــــاً

دولةٌ تجتاحُ أخـــــــــــــــــــــــرى

وسِواها عُظيمـــــــــــــــــــــــــاتٌ

راجماتٌ بشُـــــــــــــــــــــــــــواظٍ

هي ويلٌ وثُبـــــــــــــــــــــــــــــورٌ

روّعَ الدنيا وخضّــــــــــــــــــــــــا

من دمارٍ قد أقضّـــــــــــــــــــــــــا

بعضيضٍ مد قضّــــــــــــــــــــــــا

ناضِياتُ الهَوْلِ نضّـــــــــــــــــــــا

نوويِّ الخَطْفِ ومضـــــــــــــــــــا

من أذاها الوحشُ أغضــــــــــــــى”

تلك هي بعض الأبيات التي كتبها الشاعر فاضل ضياء الدين -رحمه الله- في موريتانيا عام 1982 تحت عنوان هموم العصر ومحنة العالم الثالث….

نستمع إلى الأخبار ..

أخبار العالم هذه الأشهر وخاصة ما يعج في فضائنا من احتلال روسيا لأوكرانيا ثم تهديد بعضهم باستخدام الأسلحة النووية وكأن الموضوع شرب قهوة لا أكثر. وآخرون يردون إما بتهديدات مشابهة، أو باستخفاف أو بتحشيد اعلامي وسياسي وكأن الإبل تورد بهذا الشكل!

واعلام العالم هذه الأيام نشيط – بحسن نية أم بسوء نية- في نقل كثير مما يحصل وفي مباراة يُعرَض علينا الأشنع فالأشنع والقبيح فالأقبح… وكأن البيوت التي تهدم والمرافق التي تمحى ألعاب ورقية خلقت لذلك، وكأن الموتى والجرحى والخائفين دمى جعلت ليتخلص منها، وكأن الأيتام والأرامل والثكالى بلا أرواح تتألم وضمائر تدعو على كل ظالم!

لم أستطع وأنا أرى كل ذلك إلا أن أفكر مرات كثير بما كتبه الشاعر فاضل ضياء الدين… كتبه -وهو الانسان ذو الحس المرهف والضمير الحي – وكأنه يرى المستقبل ويحس به ويعيشه ويراه.. اقرؤوا معي مرة أخرى الأبيات أعلاه.. لو قالها قائل اليوم، ماذا كان سيقول أكثر من ذلك؟

ولكن فاضلا بقلمه وضميره لم يقف عند ذلك.. فها هو يعتب ويحمل على منظمات وهيئات ودول تدعي الأمن والسلام والبحث عن الأفضل، يعمل ذلك واضعا الإنسان في الوسط إما ظالما ينشئ منظمات اليوم ليهمشها غدا تبعا لمصلحته، نعم! يضع الإنسان إذن في الوسط أيضا كضحية لهمجية الأنسان الآخر..

“وارتياعاُ من هـــــــــــــــــــلاكٍ

مجلِساً للأمن شــــــــــــــــــــــادوا

فابتهَجنا لأمـــــــــــــــــــــــــــــان

فإذا بالأمنِ وَهْــــــــــــــــــــــــــــمٌ

لا تسَلْني عن صــــــــــــــــــــراع

أي فألٍ في حِــــــــــــــــــــــــــوار

إنّها الأطمــــــــــــــــــــــاعُ أودتْ

تاجَروا فينا مَصيــــــــــــــــــــــراً

ماحِقٍ خُمّاً وبَيضـــــــــــــــــــــــا

وارتجَوا للخُلْفِ فَضّـــــــــــــــــــا

وانتظرْنا الخيرَ فيضــــــــــــــــــا

دكَّ ما شادوهُ نقْضــــــــــــــــــــــا

مَصلَحيٍّ قد أمضّــــــــــــــــــــــــا

زئبقيٍّ عزَّ قبضــــــــــــــــــــــــــا

بصروحِ الأمنِ نفضـــــــــــــــــــا

فحُرِمنا الليلَ غُمْضـــــــــــــــــــــا”

وكإنسان ضحية فها هو الشاعر يظهر خوفه ، ليس جبنا وهروبا ولكن الخوف ذلك الشعور الإنساني الطبيعي الذي يراود الجميع .. فيشل حياتهم ويهز كيانهم.. ويوقف تقدمهم وانفتاحهم..

والشاعر كإنسان مسالم حساس ليس بيده قوة غير قوة قلمه وليس معه أداة غير لسان خلقه الله له ليستخدمه كأضعف الإيمان، فيحاول أن يثني الظلمة عن ظلمهم ويذكرهم بما يجب أن يكون ويخاطبهم عسى ولعل .. فيقول شاعرنا:

“يا ذوي الأطمــــــــاعِ طُـــــــــــرّاً

لم يَعُدْ في الضَّــــــرْعِ قُــــــــــوتٌ

كلُّ شـــــــعبٍ إذ فحكَمْتُــــــــــــــــم

من أذاكُــــــــــــم لكلُّ فَقْــــــــــــــرٍ

أيُّ معنــــــــــــــــى لازدهــــــــارٍ

ليس في شــــــــرْعِ التآخـــــــــــــي

لا ، ولا الإنصـــــافُ أوصــــــــــى

ما وَنَوا نهْشاً وعضّـــــــــــــــــــــا

بَذْخكم للجســــــــــــــــمِ أنضـــــى

قد تركتُــــــــم فيه رُضّـــــــــــــــــا

كلُّ جَهْـــــــــــــلٍ، كلُّ فوضــــــى

فوق كَــــــوْنٍ باتَ قوْضــــــــــــــا

أن يكونَ الحُـــــــبُّ بُغضــــــــــــا

أن يصيرَ الظُّلــــــمُ فَرْضــــــــــــا”

 وفي مقطع آخر من هذه القصيدة الطويلة يخاطبهم مرة أخرى متوسلا وذاكراً الرعب والخوف مرة أخرى، ومن لا يخاف من ظالم في يده مفاتيح الفتك العالمي بقنابله الذرية وصواريخه النووية وفي عينية مصالح شخصية أو حزبية أو قومية أو طائفية أو عقائدية ضيقة؟

“أمِّنونا ضِـــــــــــــــدَّ فَتْـــــــــــــك

بينَ أيْديكــــــــــــــــــم حيــــــــــاةٌ

ومصيرٌ صــــــــــــــارَ غَيْبـــــــــاً

حرْبُكم حـــــــــــربٌ فَنـــــــــــــاءٌ

إنْ أكُنْ مجنــــــــــــونَ رعْـــــــبٍ

يا ذَوي الطَّـــــــــــــولِ المُثَنّــــــى

سوف تَنْـــــعى مَن تجَنّــــــــــــــى

ليس يُـــــــدْرى ما تَبَنّــــــــــــــــى

رسْمُها البــــــــــاقي مُحَنّـــــــــــى

فاصطراعُ العصْـــــــر جُنّــــــــــا”

 ربما أدرك الشاعر فاضل بحسه المرهف وخبرة حياته بأن هؤلاء لن يستمعوا ولن يرعووا عن غيـّهم.. فانتقل ليحدث الذين يساعدونهم، بطانة سوءٍ وناصحين مستفيدين أنانيين، فوصل متوجهاً خاصة إلى العلماء الذين من دونهم لن تكون هناك تلك الأسلحة المرعبة الفتاكة فيخاطبهم :

“يا رجالَ العِلــــــــــــم هاكُـــــــــــم

قد غدَوتــــــــــــمْ للمنايـــــــــــــــا

مُخطئٌ مَن ظـــــــــــــــنَّ منكـــــم

واهِمٌ مَن خـــــــــــــــالَ فيكــــــــم

إننا نخشـــــــــــــــــى عليكـــــــــم

أن تقولـــــــــــــوا ذاتَ يـــــــــومٍ:

أو تقولــــــــــــوا بعدَ يـــــــــــأسٍ:

ضلَّ سعـــــــــــــــــــيٌ، ذَلَّ يـــومٌ

هكذا تشْقَــــــــــــــون روحـــــــــاً

ليس يُجدي ألــــــــــــفُ قَـــــــوْلٍ:

تلك أشــــــــــــــــلاءُ الضَحايــــــــا

من فؤادي مــــــــــا استَكَنّـــــــــــا

حدَّ ســـــــــــيفٍ لا مِجَنّــــــــــــا !

مِهنةَ الإفنـــــــــاءِ فَنّـــــــــــــــــــا

طعمُها سَـــــــــلوى ومَنّــــــــــــــا

إنْ نجَوْتُــــــــــــم وانطَحَنّــــــــــــا

ويلَنا ! نمــــــاذا امتَهَنّــــــــــــــــا

بئسَ خُبـــــــــــــزاً ما عجَنّـــــــا !

عُلَماءً فيـــــــــــــــــهِ كُنّــــــــــــــا

عَتْبَ وُجــــــــــــــدانٍ مُعَنّـــــــــى

ليتَ أنــــــــــا ، ليتَ أنّــــــــــــــــا

إنّكُم منهـــــــــــــا ، وإنّـــــــــــــــا”

ولكن الشاعر وكأنه يعرف بأن الآذان لا تسمع والعقول لا تعي، فيتحول عن هذا الخطاب ليخاطب العالم والناس ، أمثاله من الناس… رجالا ونساء، كبارا وصغارا، ليقوموا ضد ذلك الظلم وليوقفوا جنون أقلية فينقذوا البقية من الناس البسطاء والعاديين، يناديهم ليقوموابثورة بيضاء كما أسماها  وكما يريدها، ثورة بيضاء: السلم روحها، والهدوء الحازم ديدنها، والعقل والمنطق مذهبها معتقدا – برغم يأسه وخبرته السلبية في الحياة كما ذكرها في مقاطع أخرى من القصيدة – بأنها ستنجح وتؤتي أكلها:

“يا برايـــــــــــا الأرضِ طُـــــــــرّاً

سُبُلُ الدّنيــــــــــــا تجافَـــــــــــــتْ

لم يعُد للمـــــــــــــرءِ قـــــــــــــدْرٌ

فانهضوا أعـــــــــــــــــــــراسَ وُدٍّ

واسحقوا بالحُـــــــــبِّ بُغضـــــــــاً

وانسِفوا بالصُفـــــــــــــح عُنْفـــــــاً

ثم ســـــــيروا مهْرَجانـــــــــــــــــاً

واهتِفــــــــــوا مِلءَ الحنايــــــــــا:

يَسقُطُ الأشـــــــــرارُ لُؤمـــــــــــــاً

ما أدانونــــــــــــأ بشَـــــــــــــــــــرٍّ

يا عطاءً لــــــــــــــــم يَمُــــــــنّـا

هكذا بانَـــــــــــــــــت وبِــــــــــــنّا

في اعتبـــــــــــــــارٍ قد تدَنّـــــــــى

تلتقي إنســــــــــــاً وجِنّــــــــــــــــا

كم لداعي البَيـــــــنِ غنّــــــــــــــى

في قلوبٍ لـــــــــــــــــم تئِنّـــــــــــا

مِن حنانٍ فـــــــــــــــاضَ عنّــــــــا

يا سُقاةَ الهَــــــــــــــــــــمِّ دَنّـــــــــا

خجَلَ الغُفـــــــــــــــــرانِ منّــــــــا

نحنُ إياهُــــــــــــــــم أدَنّـــــــــــــا”

 نعم هذه القصيدة صرخة في وجه عالم ظالم مجنون.. أطلقها الشاعر قبل أربعين سنة ونعاود إطلاقها على لسانه اليوم في عالم ربما لم يزد إلا جنونا.. وصدق من قال: ما أشبه اليوم بالبارحة!

رحم الله الشاعر فاضل ضياء الدين وتقبل منه صيحة الألم والاحتجاج وحقق أمنيته بعالم أكثر أمناً وهدوءاً وسلاماً.