رحلة في القطار من مراكش إلى الرباط.. .

خلدون ضياء الدين 

وتشرق الشمس من على يميني.. على مهل تطلع عليّ من خلف جبال تتغير اشكالها بتغير المسافات، فأنا
في القطار من مراكش إلى الرباط في المغرب الحبيب.
يطوي القطار الأرض نهباً فأرى مزارع الزيتون وأشجار الحمضيات تتوالى.. ومزارعون -من أول
اليوم- يعملون بهمة في حقولهم… تتسارع المناظر أمامي، فهذا تل جميل يغطي الشمس ثم يغيب لتظهر
الشمس مرة أخرى وهي منخفضة في الأفق قد تحجبها بعض الأشجار، ولكن هيهات فالشمس تظهر
حتم اً… مزارع وبساتين، مزارع الدواجن ثم بعدها رعاة مع بعض أغنامهم، حقول واسعة ممتدة خضراء
في هذا الفصل الجميل من السنة.. يسير القطار وتصحبنا معه الكوابل الكهربائية التي تغذيه محمولة على
أعمدة ما أن تظهر حتى تختفي لسرعة القطار …بعض غابات شجر الاكيليبتوس تظهر هنا وهناك وقد
انتزع جزء من لحائها، عرفت أنه يصنع منه إكسير غالٍ يضاف إلى الأدوية والمراهم الطبية!
ومن بعيد تتراءى لنا في بعض الأحايين طرق سريعة تمر على جسور تعبر ودياناً!.. وتلك أعمدة نقل
الطاقة تعبر الفيافي لتنقل شرياناً من شرايين الحياة إلى قرى بعيدة.
نعم! المغرب الجميل بتقدمه ، برقي أهله وطيبة قلبهم… بلد يسير في طريقه إلى الأمام بخطوات متئدة،
واحدة بعد الأخرى، خطوات تنجح كثير اً وتتعثر أحياناً …
اكتشفت أن هناك كلمة سر للتعامل مع أهل هذا البلد! كلمة السر هي أن تقول بأنك من سورية: فإذا
بالوجوه تنفتح وبالابتسامات تنطلق وترخص لك الأسعار من دون أن تطلب! ويرحب بك، وتذكر سورية
بكل خير قبل ان تنطلق الآهات والحسرات والزفرات على ما حل بسورية… وإذا قلت بأنك من حلب
الشهباء فستتضاعف المشاعر الإيجابية والمحبة والحفاوة! لتشعر أنك بين أهلك ومحبيك بإخلاص وحب.
نعم، هذا هو المغرب المتنوع بغناه وفقره أيضاً، بعلمائه وجهل ه، بمدينته وقريته، بشواطئه وصحاريه،
بسهوله الرحبة وجباله الشامخات… تنوع من أروع ما كان في انسجام وتواؤم..
القطار.. يسير، ويسير، ومن فترة إلى أخرى يأتي صوت بالعربية ثم بالفرنسية ليذكرنا بالموقف القادم أو
يرجونا عدم التدخين… والناس في هدوء كل في مكانه.. ومراقب القطار يأتي بالسلام والابتسامة ليسأل
عن البطاقة مستخدما أحدث الأجهزة لفحصها بمنتهى الرقي والأدب…
أرى كل ذلك، فأتذكر والدي رحمه لله! وأتذكر أنني كدت أن أولد في هذا البلد: المغرب، لو أن مقادير
لله جرت كما خطط لها البشر ووالدي أولهم!
سبحان لله، ف صل بين أن أولد في المغرب وأن أولد في سورية برقية من الوزارة في دمشق!
حلمَ والدي في عام 1958 بالسفر إلى المغرب في انتداب من الحكومة السورية لمساعدة المغرب في
تعريب برامجه التعليمية بعد خروج المستعمر وعودة الملك محمد الخامس رحمه لله إلى البلاد. وبدأ
الحلم يتحقق رويداً رويداً إلى أن حانت ساعة السفر.. ولكن ساعة السفر تلك لم تأت.. وتأخرت!
عاش والدي رحمه لله تلك التجربة وذلك الانتظار بشكل درامي واضح – وهو الإنسان الحساس
المرهف- فها هو يقول مصراً على الذهاب إلى المغرب بعد تفكير عميق في قصة “العودة”:
يا لهم من قساة 1! ويمزقون قلبه في كل ما يزعجون من أشياء البيت وأثاثه. ليفعلوا… ليفعلوا ما يريدون.
أما هو، فلن يتزحزح عما نوى وقرر. فليأس الطلاب الأوفياء، وليفرح بسفره الذين لم يفهموه… فقد
فهمونه وهو بعيد! يكفيه أنهم أهدوه صوراً تذكارية لا تنسى. وليستمع – بين الحين والآخر- إلى تخطي
بعض الناس إياه… أفلم يقرر؟… إذن لقد انتهى كل شيء بالنسبة إليه!
نعم قرر والدي رحمه لله السفر وعزم عليه.. وهذا أمر ثقيل عليه وخاصة أن هناك والدتي التي كانت
حاملاً بي! ولكن، انظروا إلى قلب والدي الكبير واحساسه الدقي ق.. قلب مفعم بإنسانية تضم كل شيء،
وإحساس يقرأ الأمور في العيون.. عيون انسان كانت أم عيون حيوان…فلنسمع إلى ما يكتبه:
إن شيئا واحداً فقط كان يحز في فؤاده. وقد يبدو هذا الشيء مضحكاً إن هو عرضه للناس! ولكن … ماذا
يهم؟ … إنه سيبتعد وليقل عنه الناس ما يحلو لهم ويطيب.
لا.. إنه ليس ذلك الجنين الذي تحمله زو جته بعد حرمان وانتظار ورجاء. لا، ولا تحذير الأطباء إياه من
خطر فادح يتعرض له الجنين… إنه .. .
– وهذا القط المسكين … ماذا سيكون مصيره؟
– دعوه قليلا – ولكن ألا تسمع بكاءه وعويله؟ … لقد غدا لا يستقر له قرار.
ولله لكأني به يدرك ما ينتظره من فرقة وغربة!
– أرجوكم … قلت دعوه .
كان قطه هو ذلك الشيء الذي يشغل باله، ويحز في قلبه. بلى… إنه سيقتات بالذكريات متعزياً، وسيتسلى
عن الأصدقاء إن أمكن، وقد يتناسى أيضا أنه لن يربح هناك مادي ا أكثر مما يربح هنا… حتى أخته الوحيدة،
وصهره النبيل الذي رباه سيتناساهما، وسيتناسى كل آماله وأحلامه التي كان زرعها في ربوع بيته
المتواضع الصغير. لأنه ما قلعها من هنا، إلا ليزرعها هناك… حيث إخوانه بحاجة إليه.
نعم، نعم، سيتناسى كل شيء، ولكن أنى له أن ينسى ذلك القط الصغير الذي جلبه إلى البيت وهو ابن
يومين، والنور ما كحل بعد عينيه؟ كيف ينسى يوم أرضعه الحليب بملعقة الشاي قطرة فقطرة، حتى إذا ما
كبر وأصبح قطا عجيبا يفهم ما يقال له بالنظر دون الكلام؟ … بل كيف ينسى يوم أن أفاق ذات صباح،
فوجده أعمى، وعيناه كصفحة اللبن المخثر؟ ولو أنه نسي كل شيء، فهل يتسنى له أن ينسى الرسالة التي
بعث بها إلى طبيب حديقة الحيوان –في ألماني ا- يشرح له فيها حكاية العمى، ثم يأتيه الشفاء العاجل في
وصفة طبية ناجعة؟
نعم رحم لله الوالد فكان هذا ديدنه.. أذكر حادثة بعد قصة القطة تلك بزمان طويل عندما عالجنا قطة
أخرى، ثم كلباً.. وكانت عائلتن ا وقته ا في وضع مالي ضيق، ولكن والدي رحمه لله كان لا يتوانى عن
الإتيان بالطبيب البيطري لمعالجة تلك الحيوانات…
المهم.. ها هو القطار يتابع بصفيره طريقه بين الحقول الممتدة التي تتهادى فيها سنابل القمح التي لم تنضج
بعد.. وكما يمضي القطار بي اليوم، حسب والدي بأن انتظاره ليوم الرحيل إلى المغرب لن يطول سوى
يومين… وما عليه إلا الانتظار كما أخبره المسؤولون، انتظار بدأ يقلقه بعد أن غادر شقته ووضع كل أثاثه
في مخزن:
إن الحياة العائلية في الفنادق، جحيم لا يطاق. ولكن لا بأس، أنهما يومان وينقضيان! إن “ميمي 2” أصبح
عند الصديقة سوزان، والأثاث في مأمن من الضياع، وإن لم يكن في مأمن من العفن والتلف. كما أن مفتاح
البيت قد سلم إلى صاحب الدار…. كذلك كان يحدث نفسه حيناً بعد حين. إنهما يومان وينقضيان. أولم يقل
المسؤولون له ذلك؟
ولكن والدي رحمه لله لم يكن يعلم أن المقادير تسير في طريق آخر وبأنه سيمر في طريقه إلى هدفه
المرجو بمراحل عصيبة وصعبة على إنسان مثله مرهف الحس:
ولكن اليومين استطالا، وامتدا إلى أسبوعين… وبامتدادهما امتد عذابه، وازداد قلقه واضطرابه. فلم يجد
بدّاً من مغادرة الفندق، والالتجاء إلى منازل الأصدقاء، يستضيف كلاَ منهم ليلة أو ليلتين – مع زوجه
الحامل- وفي شيء من الخجل كبير…
وازدادت المعاناة وهو الذي كان يتردد في الأشياء طويلاً فإذا عزم، كان يريدها أن تنتهي بأقل كلفة وجهد،
بعد أن صرف كل جهده ووقته وقوته في القرار وفي التفكير به، لئلا يت راجع عنه وتزداد مغريات معاكسة:
كانت هذه الأسئلة وأمثالها 3، تزيد في بلائه كلما تعرّض لها في الطريق. فبماذا يجيب؟ إنه لا يعرف شيئاً
موثوقاً. أيقول لهم: إن السفر تأجل، دون أن يحددوا له أجلاً؟! هذا صحيح، ولكن ما الداعي إلى شرح مثل
هذه الأمور لكل إنسان؟
ألا يكفيه همه وغمه؟ … لقد أصبح ولا مستقر له. فنومه أرق، وطعامه بلغة. وعمله فوضى. إنه معلق لا
في السماء ولا في الأرض. أو يدعى إلى الذهاب قريباً، أم تراهم يتراجعون عن عقدهم ويحجمون؟!”
وحينما بلغ تحمله أقصى ما يمكن كان والدي رحمه لله هو الذي سيضع نهاية لهذه القصة بيده وقراره:
” وفي صبيحة يوم ممطر، يقرر العودة إلى البيت لينهي فصول هذه المسرحية الهزلية الفاشلة، بعد أن
شبع النظارة من الملل، والاشمئزاز، والتصفير.
وتكون العودة بعد يأس مرير، وعذاب قاتل أليم
ولكن لا يمكن أن تنتهي القصة بهذا الشكل، فإن الحبكة – حبكة الحياة وتعقيداتها، والحبكة القصصية
الشيكسبيرية – إن صح التعبير- لا يسمحان بأن تنتهي القصة بهذا الشكل..
إلا أن الليلة الأولى لا تكاد تنقضي –وميمي معه في الفراش- حتى يطرق الباب عليه، ليبلغ رسميا نبأ
الرحيل!!!
ولكن هيهات… لقد كان ذلك بعد فوات الأوان!
يوقظني صفير القطار -قبل توقفه في محطة صغيرة – ليخرجني من حلمي وسفري مع والدي في رحاب
قصة العودة، فيحملني من أحلامي إلى الواقع.. لأتساءل -واعياً أن لو تفتح عمل الشيطان- لأقول مخاطباً
روح والدي: هل أخطأت يا والدي بقرارك ذاك بعدم السفر إلى المغرب، ذلك البلد الجميل الطيب؟ ماذا لو
أنك سافرت وبقيت فيه كبعض من زملائك؟ ماذا لو رأيت كل ما توصل إليه المغرب من تقدم كنت تحلم
بأن يكون في سورية مثله وكتبت عنه في بعض مقالاتك؟ عانيت يا والدي في سورية الكبت والضيم
والضغط وأكثر من ذلك، فهل كان قدرك لو أنك أتيت إلى المغرب هو نفسه كبتاً وضيماً وضغطاً 4؟
ماذا كانت حياتي لو أني ولدت في المغرب بدلا من سورية؟
إن لله قدّر.. والخير فيما اختاره لله دوماً!
رحم لله والدي رحمة واسعة وساعد لله المغرب على تخطي التحديات التي تواجهه، وأعان لله سورية
وأهل سورية على تخطي ما نالهم في سنوات عجاف امتدت لعقود…


(1)يتكلم فيها عن زملائه الذين يساعدونه في ترتيب أمور البيت و  ما حوى – ينظر إلى قصة العودة في كتاب فاضل ضياء الدين الفصل الثالث

(2) ميمي هو اسم القطة الذي كان يعيش مع العائلة

(3) (أسئلة الناس و زملائه إليه عن تاريخ السفر انظر كتاب فاضل ضياء الدين الفصل الثالث قصة )العودة

(4) ينظر في ذلك بعض قصائد الأستاذ فاضل ضياء الدين في كتاب فاضل ضياء الدين الفصل الثاني، مثل قصيدة دمعة وفاء على الفقيد الغالي

 الأستاذ محمد الأنطاكي، طيوف على شاشة الذكريات و قصيدة من عدن و كذلك اخضوضر الغار و طال عمر الآس